متعة الفكر أن تتفيَّأ ظلال كتابٍ له من الرُّقي الفكريِّ والسلاسة اللغويَّة والبراعةالتحليليَّة، مع سلامة العقيدة ما يأسِرُك ويأخذ بتلابيب قلبك. وليس من السَّهلالظَّفَر بمثل هذه المغانم مجتمعةً في مؤلَّف واحد، لكن هذا ميسَّر مع تحفة الشيخ محمدالغزالي وكتابه “جدد حياتك“.
تخالُنفسك وأنت بين يديه كأنَّك في عيادة طبيبٍ نفسي عالمٍ بطبيعة النفس البشريَّة،ومتمرِّس بتقلباتها الإنسانيَّة، بسلاسة يُعيد بلوَرة أفكارك المبعثَرة، ويجدِّدفيكَ متعة الحياة التي توارَت خلف المحن ومزَّقَتها سموم الهموم.
وحيثإن “الحكمة ضالة المؤمن“؛ فالشيخ الغزالي وجد ضالَّته عندالمؤلف الأمريكيِّ ديل كارنيجي، ومؤلَّفِه القيِّم “دعِ القلقوابدأ الحياة“، فاهتدى إلى تأصيل الكتاب تأصيلاً إسلاميًّا، لما تضمَّنهمن قيم جليلة هي أساسُ ديننا الحنيف.
يقولرحمه الله: “لقد قرأتُ كتاب “دع القلق وابدأ الحياة”للعلامة (ديل كارنيجي) الذي عرَّبه الأستاذ عبد المنعم الزيادي، فعزمتُفورَ انتهائي منه أن أردَّ الكتاب إلى أصوله الإسلاميَّة! لا لأن الكاتب الذكيَّنقل شيئًا عن ديننا، بل لأن الخلاصات التي أثبتَها بعد استقراء جيِّد لأقوالالفلاسفة والمُربِّين، وأحوالُ الخاصة والعامة تتَّفق من وجوهٍ لا حصر لها معالآيات الثابتة في قرآننا، والأحاديث المأثورة عن نبيِّنا“.
والتجديدُالذي يُرغب فيه الشيخ هو التجديد الذي ينطلق من الذات بدعم إيماني يرتكز علىارتباط العبد بربِّه صباحَ مساء، وثقةٍ تامة بالقدرات الشخصية، تجديدٌ يبدأ بنقضِكل ما هو سلبي ونَكثِ الأركان المتهالكة، فيقول:
“إنتجديد الحياة لا يَعني إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيات الحسَنة وسط جملة ضخمةمن العادات الذميمة والأخلاق السيئة؛ فهذا الخِلْط لا يُنشئ به المرءُ مستقبلاًحميدًا، ولا مسلكًا مجيدًا”؛ كتجديد العاصي لحياته بتوبةٍ صادقة يَلقى فيهاربَّه، توبةٍ لا تكون “زَوْرة خاطفة” يعود بعدَها المرء لما ألِفَه منالمعاصي، بل توبة تتغير معها معالم النفس كما تتغيَّر الأرض المَوات، فتكون هذهالتوبة “نُقْلة كاملة من حياة إلى حياة، وفاصلاً قائمًا بين عهدين متمايزَينكما يفصل الصبحُ بين الظلام والضياء“.
ويمكنتصنيفُ توجيهات الكتاب إلى نصائحَ توطِّد علاقة العبد بربه، وأخرى تدعم ثقة المرءبنفسه، وثالثةٍ تصحِّح نظرته لمن حوله، وأخيرةٍ ترشده إلى سبل مُجابهة المحنواغتنام الوقت.
مع الله
إنَّاليقين بوجود الله والإذعانَ لتصاريفِ قدَره ضرورةٌ إنسانية، وموجب أساس للثبات فيهذه الحياة؛ فهو سبحانه مَن يستطيع سدَّ خَلَّة ابن آدم، وإشباعَ نهمه، وَردَّالطمأنينة إلى قلبه، وهذا ما أكَّده الغزالي بقوله: “ولو أقبل المرء علىربِّه يَستلهمه ويستعينُه وحدَه لوفَّقه إلى ما يُريح أعصابه ويزيح آلامَه“.
وساقفي هذا المقام قولَ وليم جيمس: “إنَّ بيننا وبين الله رابطةً لا تنفَصِم،فإذا نحن أخضَعنا أنفُسَنا لإشرافه عز وجل تحقَّقَت أمنياتنا وآمالنا كلها“.
وألمح– جزاه الله خيرًا – إلى أن الصلاة تحقِّق للعبد هذا المطمَح النبيل فقال: “إنَّالركض في ميادين الحياة بقدر ما يجلِّل البدنَ بالغبار والعرق يجلِّل الروحبالغيوم والأكدار، والمرء – إثرَ كل شوطٍ طويل – يحتاج إلى ساعة يُلمُّ فيهاشَعثَه، ويعيد النظافة والنظام إلى ما تعكَّر وانتكث من شأنه كله، وليست الصلاةإلا لحظات لاسترجاع هذا الكمال المفقود أو المنشود“.
ولأنسير الحياة إنما هو بقضاء الله وقدره؛ وجب الفقهُ الجيد لهذا الركن؛ فهو لا يَعنيالخضوع والخنوع وترك العمل، بل هو الرِّضا التامُّ باختيار الله لنا بعد أننستَنفِذ ما في جَعبتنا من سعيٍ وعمل، مما يستلزم مرونةً في مواجهة الشدائدوالمحن، وعدمَ تغليب كفَّة اليأس، بل التعامل بروح متفائلة مع الأمور التي تَعرِضلنا في الحياة، وهذا ما يبعث في النفس سكينةً وطمأنينة؛ فـ “إحساس المؤمنبأنَّ زمام العالم لن يُفْلِت من يد الله، يقذف بمقاديرَ كبيرة من الطمأنينة فيفؤاده؛ إذ مهما اضطربَت الأحداث وتقلَّبَت الأحوال فلن تبُتَّ فيها إلا المشيئةُالعليا“.
فجدِّدحياتك بدءًا بتجديد صلتك بربك، واعقد العزم على الأوبة الصحيحة للفطرة التي سوَّاكبارئُك عليها.
مع النفس
فيمباحثَ كثيرة أبحَر الشيخ مع هذه النفس الإنسانيَّة التي تعجُّ بالغرائب والعجائبالربانيَّة، فدعا كلَّ ابنِ آدم إلى التأمل في نعم الله عليه التي غفَل عن إدراكفضلِها وتقدير قيمتها من شدَّة استئناسه بها، حتى عدَّها حقًّا مفروضًا؛ من سلامةالأعضاء والحواسِّ، والتنعُّم بخيراتِ الأرض الظاهرة والباطنة… فقيمتُها غاليةجدًّا لا تُوازيها كنوز الدنيا، لكن “ما أقلَّ تفكيرَنا فيما لدينا، وماأكثرَ تفكيرنا فيما ينقصنا!“، كما قال (شوبنهور).
فلوأن كل واحد منا تأمَّل نعم الله عليه وأحسَن توظيفها دون جحودٍ أو نكرانٍ لاستشعَرفضل الله العظيم عليه، ولما شعَر بضيق ونَكد؛ ولهذا أشار الغزالي إلى أن أساسالمنغِّصات في الحياة ليست الحياةَ ذاتها، وإنما سلوك الإنسان فيها بغير هدًىجعَلها جحيمًا تنأى بأهلها.
وكمايحرص المرء على تجميل ظاهره عليه أن يَعتني بباطنه ويحرص على نقاء سرِّه وعلانيته،“فما قيمة المظهر الحلو إذا كَمُن وراءه مخبَرٌ مرٌّ؟!“.
وقدبسط الشيخ في هذا الكتاب سبُل قهر الهوى نقلاً عن الإمام ابن الجوزي، وتقفِّيأثرها سبيلٌ “لتخليص أسير الهوى من بَراثن الشيطان عندما يُغريه بمُواقعةالمعصية“؛ لذا وجب محاسبةُ النفس للوقوف على مَواطن الخلل بها، وقد حبَّذالشيخ ضبط هذه المحاسبة في سجلٍّ أمين، فقال: “لا بد من حسابٍ دقيق يعتمدعلى الكتابة والمقارنة، والإحصاء واليقظة“.
وفيمبحث جليل عَنونَه بـ”حياتك من صنع أفكارك” أكَّد الغزاليأن ما يَعتري الإنسانَ ظاهرًا من فتور أو فتوَّة، أو سرور أو حزن، ما هو إلاانعكاس طبيعي لِما يجول في خاطره وما يَضطرب في فكره، وكثيرٌ من المشاكل مبدؤهاالفكر الخاطئ الذي يَجعل الإنسانَ يحيا في دوَّامة ما لها من قرار: “النفسوحدها هي مصدرُ السلوك والتوجيه؛ حسب ما يغمرها من أفكار، ويصبغها من عواطف“؛لذا فأيُّ رغبة في التغيير ينبغي أن تنبَعث من الذات، فتتجدَّد مشاعرنا وأفكارنا،وتنطلق نحو أفق جديد، يتعالى على كل الأفكار السلبية التي تستَوطِننا.
وعلىعادته في كل مبحث؛ ذكَر الغزالي هنا حكاية معبِّرة أوردها كارنيجي في كتابه، وهي“لِشابٍّ أنهكته العِلَّة، فرحل عن وطنه يطلب الصحَّة في السياحة، وكانأبوه يَعلم طبيعة مرضه وأن سقامه جاء من توعُّكِ مزاجه وغلَبة أوهامه، فكتب إليه:ولدي إنك الآن على بُعد ألف وخمسمئة ميل من بيتك، ومع ذلك لستَ تُحس فارقًا بينالحالين هنا وهناك، أليس كذلك؟!
بلى؛لأنك أخذت عبرَ هذه المسافة الشاسعة الشيءَ الوحيد الذي هو مصدرُ كلِّ ما تعانيه؛ذلك هو نفسك! لا آفةَ البتة بجسمَك أو عقلك، ولا شيء من التجارب التي واجهتَها قدتُردي بك إلى هذه الهاوية السحيقة من الشقاء، وإنما الذي تَردَّى بك هو العِوَجالذهنيُّ الذي واجهتَ به تجاربَك، وكما يفكِّر المرء يكون، فمتى ما أدركتَ ذلكفعُد إلى بيتك وأهلك؛ لأنك يومئذٍ تكون قد شُفيت“.
وقدكرر الشيخ مرارًا أن التجديد كي يكون سليمًا على المرء أن يَثق بنفسه وقدراته،ويشعر أنه شخصٌ متفرد لم تُنجب الحياةُ مثله، ولا يصادر ميولَه وأفكاره ومشاعره،أو يَبغي عنها حِولاً، ويتجنَّب التقليد الذي يُفقده شخصيتَه، ويسرع بعمليَّةذوبانها في الآخر.
وقد استقبَح الشيخ هذا الذوبان؛ خاصة في الميدان الدِّيني، فقال: “والمحاكاة وذَوبان الشخصية وتمثيل الأكابر عللٌ لا تُذم في مجالٍ قَدْر ما تُذم في المجال الديني، حيث لا يَبلغ أحدٌ درجة التقوى إلا إذا استقامَت خَلائقه، وطابت سجاياه، وكلُّ تظاهر – مع فِقدان الأساس – لا يَزيد المرء إلا مَسْخًا“.
مع الأزمات والاضطرابات النفسية
كثيرًاما تتعثَّر الخُطى لحظةَ الأزمات، وتختنق الأنفاسُ عند هبوب رياح الشدائدوالمِحَن، فنعيش الهَدر بكلِّ معانيه؛ لذا أكَّد الشيخ أن الهموم هي سمومٌ تخترقالجسوم، فتنخَر فيها كلَّ عظم وتفتِّت كل عَضد، بل إن القلق والهم “يحطِّمانالعمالقة، ويُذبِلان الوجوه الطافحة بالحياة“، و”الاستسلام لتيارالكآبة بدايةُ انهيار شامل في الإرادة يطبع الأعمال كلَّها بالعجز والشلل“،وقد أثبتَت الدراسات الحديثة خطورةَ القلق على صحَّة الإنسان.
لذاوجب علينا الثباتُ لحظةَ المحن، ومجابهتُها بأناة وحِلم؛ حتى نخرجمنها “خروجًا لا يخدش المروءةَ ولا الشرف“، بل نسعى جاهدينأن نستَخلص من هذه المحن “عناصر حياة تكفي، أو معاني عزاء تشفي“،وحين يكون الإيمان بالقدَر عكازةَ المؤمن فإن التسليم والرِّضا يكون دَيدنَه،فيتوجه إلى الله بالدعاء لفكِّ الكرب؛ إذْ هذه الأدعية “أشبه بالأناشيدالحماسية التي تثير عواطف الرَّكب السائر“، وليست كما يدَّعي الجهَلةموقفًا سلبيًّا من الحياة.
وحتىتؤسس لمستقبل مشرق؛ “لا تبكِ على فائت“، خُذِ العبرة منأخطاء الماضي، ولا تُطلِ المكوث أمام أحداثٍ أوجعَت قلبك ويتمَت أحلامك؛ فهذا أمرٌينبذه الإسلام ويذمُّه وقد أعطى الشيخُ مثالاً على ذلك ما جاء في غزوة أحد منعِبَر حكاها القرآن الكريم، وكيف أدَّب المسلمين بأنْ “علَّق عيونهم علىالمستقبل، وصرَف أذهانهم عن الماضي، وزجرهم عن الوقوف بأطلال الأمس يبكونويُولوِلون“.
فمنالفطنة والكياسة أن تُحيل التراب تِبرًا، وتَمتطي صهوة الأمل وتدوس على الألم، ولايبلغ هذا المرام إلا صاحب فكرٍ نيِّر ونفسٍ وثَّابة تأبى أن تُسلسِلَها نائباتالدهر. فلا تخضع وتخنع للأزمات، وتنبطح أمامها منكسرًا ذليلاً، تُحصي الثوانيَذواتِ العدد مترقِّبًا وصول القطار إلى آخر المحطات! بل عليك أن “تصنع منالليمونة المالحة شرابًا حلوًا“، ومن غمامة الهموم مُزْنًا تَرتوي منهنفسُك العطشى، وتنهض به همتك المتآكلة.
التعامل مع الآخر
ركَّزالشيخ الغزالي في كتابه على طريقة التعامل مع “الآخر” بشكلإيجابي لا يَسمح له بتدميرنا أو بعثرة أوراق حياتنا، فحذَّر من الغضب؛ لأنه “مسٌّيَسري في النفس كما تسري الكهرباء في البدن“! فيكون مدمرًا لصاحبه حالاشتداده، ومانعًا للعطاء وموجبًا للاضطراب؛ بسبب التفكير في الانتقام والقصاص.
لذادعا إلى التحلِّي بقيم التسامح مع الأصدقاء والأعداء، والنظر في عواقب الأمور،وعدم الانشغال بالانتقام والحقد والضغائن، وله في الله خيرُ عِوض؛ كما قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((ثلاث مَن كنَّ فيه آواه الله في كنَفِه، وستر عليهبرحمته، وأدخله في محبته: من إذا أُعطي شكَر، وإذا قَدِر غفَر، وإذا غَضِب فتَر))؛رواه الحاكم.
ولأنالجحود طبع إنساني فلا تنتظر شكرًا على معروف أسديتَه، وافعل الخير عشقًا لصنائع المعروف،ولا تبتغِ به غير وجه الله تعالى، واجعل عملك خالصًا له سبحانه لا تبتغي به ثناءًأو إعجابًا، أو بروزًا أو ظهورًا أو شُكورًا؛ ففي طباع نفَرٍ من الناس “كُنودٌيعزُّ على الدواء“؛ لذا فلا تستغرِب إساءتهم لك متى أحسنتَ إليهم، ولاجهلَهم لفضلك متى جارَت بك الأيام!
وفيموضع آخرَ شدَّد رحمه الله على ضرورة تقبُّل النقد البنَّاء بصدرٍ رحبٍ، والسعي منخلاله لتقويم اعوجاج النفس، وعدم المبالاة بالنقد الهدَّام الذي تُسيِّره ألسُنحاقدة فقال:
“إنأصحاب الحساسية الشديدة بما يقول الناس، الذين يَطيرون فرحًا بمدحِهم، ويختَفونجزعًا من قدحِهم، هم بحاجةٍ إلى أن يتحرَّروا من هذا الوهم، وأن يَسكبوا فيأعصابهم مقاديرَ ضخمة من البرود وعدم المبالاة، وألا يغترُّوا بكلمة ثناء أو هجاء،لو عُرفَت دوافعها ووُزنَت حقيقتها ما ساوت شيئًا، وهَبْها تُساوي شيئًا ما،فلماذا يرتفع امرؤٌ أو ينخفض تبعًا لهذه التعليقات العابرة من أفواه المتسلِّينبشؤون الآخرين؟!“.
ولأنبعض النقد منشَؤه الحسَد، فقد تحدث الغزالي عن هذه الآفة التي كثيرًا ما تقف حجرعثرة في وجوه الموهوبين؛ فما “إن تكتمل خصائص العظمة في نفس، أو تتكاثرمواهبُ الله لدى إنسان حتى ترَى كل محدودٍ أو منقوص يَضيق بما رأى، ويَطوي جوانحهعلى غضبٍ مكتوم، ويعيش منغَّصًا لا يريحه إلا زوالُ النعمة، وانطفاء العظمةوتحقُّق الإخفاق“.
وللأسفكثيرًا ما أسقَط الحسدُ ألويةَ المرموقين والمتميزين؛ بسبب الدسائس التي تُحاكضدَّهم، وبسبب المثبِّطات اللفظية التي تُشاع عنهم لتنكيس أعلامهم، لكن المؤمنعليه أن يَستعين في ذلك بربِّه، ويمضي قُدمًا غيرَ آبهٍ بهذه القلوب المريضة، ولهفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنة؛ فغيرُ خافٍ ما تعرض له من مكائدَودسائس، لكنه مضى غيرَ مهتمٍّ بالمشركين واليهود حتى بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانةونصح الأمة، وتركها على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ولتعزيزأواصر الأخوَّة والصداقة مع الآخر؛ لا بدَّ من تغليب الإيثار على الأثَرة؛ لأنالأنانية وبالٌ على الفرد والمجتمع، بل إن “الاضطراب الاجتماعي الذي نُعانيهإنما ينبع من هذه العين الحمئة؛ فإن فِقدان التعاون وقلَّة الاكتراث بشُؤونالجماعة وتأخير الاهتمام بالبلد الذي نَحيا فيه والأمة التي نرتبط بها، والرسالةالتي ننتسب إليها، كل ذلك أمَارة على ضعف اليقين ونجوم النفاق“.
فالمسلمخلَقه الله ليكون ذا نفعٍ على نفسه وعلى مَن حوله، فهو مصدرُ نور يَنبغي أنيُستضاء به؛ ولهذا حثَّ دينُنا الحنيف على التعاون وبذل الخير للآخر، واعتبره منأهم القربات والصدقات، ولْيَكن ديدنُ الصحبة فينا ما حكاه صاحب قوت القلوب: “ليكنصاحبُك مَن إذا خدمتَه صانك، وإن قعدَت بك مؤونةٌ مانك، وإن مدَدتَ يدَك بخيرمدَّها، وإن رأى منك حسنة عدَّها، وإن رأى منك سيئة سدَّها، وإن سألتَه أعطاك، وإنسكتَّ ابتداك، وإن نزلَت بك نازلة واسَاك، وإن قلتَ صدَّق قولك، وإن تنازعتُماآثرَك! إنَّ صديقك هو من يسدُّ خلَلَك، ويستر زَلَلك، ويقبل عِلَلَك“.
مع الوقت
كثيرًاما نبخَس الوقت حقَّه، فنعيش الهدر الزمنيَّ بكل معانيه، وقد تحدَّث رحمه الله عنسلبيات الفراغ وآفاته، وساق شواهدَ من الكتاب والسنة في مدح العمل، وخلَص إلىالقول بأن سوء تدبيرنا للوقت وهدرنا لطاقتنا العقلية والجسدية والعاطفية هو أحدأهمِّ أسباب تخلفنا، فقال: “إن الفراغ في الشرق يدمِّر ألوف الكفاياتوالمواهب، ويُخفيها وراء رُكام هائل من الاستهانة والاستكانة، كما تَختفي معادنُالذهب والحديد في المناجم المجهولة“.
ولهذاحث على اغتنام الوقت وأن يَعيش المرء في حدوده يومه، ويَستمتع بلحظاته التي لا تتكرَّر؛فاللبيب مَن عاش وتعايش مع يومه، ورَضي بقضاء ربِّه، ولم يقع أسيرًا لماضٍ فائت أومستقبَل آتٍ؛ يقول رحمه الله: “مِن أخطاء الإنسان أن يَنوء في حاضرهبأعباءِ مستقبله، والمرء حين يؤمِّل ينطلق تفكيرُه في خطٍّ لا نهاية له، وما أسرعَالوساوس والأوهام إلى اعتراض هذا التفكير المرسل، ثم إلى تحويله همومًا جاثمة،وهواجسَ مقبضة!“، لكن هذا لا يَعني عدم التخطيط للمستقبل، أو ادِّخارِ مايُعين على نوائب الدهر؛ لأن التبذير في الوقت والمالِ نوعان من السَّفَه.
هكذا إذًا ارتَضى الشيخ الغزالي أن يكون تجديد المرء لحياته، ثورةً وجدانية وعقلية، تقطع دابر كل الإخفاقات، وتَعتلي صهوة الأمل والعمل؛ من أجل غدٍ أفضل، يجُبُّ كل الإخفاقات، ثورةً لم يُغفَل فيها الجانب الإيماني؛ باعتباره أساسَ كل إصلاح سليم ونافع؛ إذ ما نفعُ الحياة إن لم ترتبط بِواهبِ أنفاسها؟! ولا الجانبُ النفسي؛ باعتبار أنَّ التغيير ينبغي أن ينطلق من الذات، ولا الجانبُ الاجتماعي؛ لأن الإنسان كائن اجتماعي، ولا يمكنه الانزواءُ في عالمه الخاص بعيدًا عن الاختلاط.
تجديدُ الحياة ينطلق من الذات بدعم إيماني يرتكز على ارتباط العبد بربِّه صباحَ مساء، وثقةٍ تامة بقدراته الشخصية